رمضان والتوبة الفكرية

استعرضنا في الجزء السابق عناية اﻹسلام قرآناً وسنة بتصحيح المفاهيم وتصويب اﻷفكار والتصورات.. وحث القرآن على المراجعة الذاتية والتوبة الفكرية، تعقيبا على أحداث غزوة أحد بعدما أصاب فيها المسلمين ما أصابهم من مصيبة وقرح، والقرآن الكريم عندما رد الأمر إلى أنفسهم (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)165آل عمران، لم ينزع عنهم عدالة قضيتهم، ولم يقلل من قيمة الحق الذي يؤمنون به، ولا من فرضية الجهاد الذي خاضوه في سبيل نصرة الله وإعلاء كلمته، ولم ينعَ عليهم حتمية المواجهة التي خاضوها عند أُحد مع مشركي قريش.. لكن التعقيب القرآني جاء تفنيدا للأخطاء التي شابت اﻷداء داخل منظومة الحق.. فالقرآن عندما قرر أن (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)152آل عمران، لم يتهمهم بأنهم حادوا عن الحق بكليته، فأصبحوا في معسكر الباطل، لكنهم على أخطائهم ظلوا في معسكر الحق، ولذلك عفا الله تعالى عنهم (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)152آل عمران، ولم يسوِّ بين الذين تنازعوا وفشلوا وعصوْا وخلطوا بين حب الدنيا وحب اﻵخرة، ومنهم من تولى عند الزحف، وبين المنافقين الذين قعدوا وكذبوا (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَاكُم هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنْهُم للإِيمان)167آل عمران، وكذلك بين الكفار والمشركين.. ولم ينزع عن أهل الحق رغم أخطائهم ولايته (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْۗإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)155آل عمران،(إذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا واللَّهُ وَلِيُهُمَا)122آل عمران.. ونحن اليوم عندما ندعو أنفسنا إلى المراجعة الذاتية والتوبة الفكرية، لا ننزع عن أنفسنا إيماننا بالحق الذي آمنا به، إذ رضينا بالله تعالى رباً وباﻹسلام دينا شاملا ينتظم كل مناحي الحياة، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا وقائدا وقدوة، وبالقرآن الكريم شرعة ومنهاجاً.. وإنما الدعوة إلى المراجعة هي دعوة إلى مراجعة اﻷداء والمفاهيم والتصورات واﻷفكار داخل نفس معسكر الحق الذي نرتضيه ولا نحيد عنه، سائلين المولى عز وجل الثبات عليه حتى نلقاه غير مبدلين ولا ناكثين ولا مفتونين.. إنها دعوة إلى المصارحة اقتداءً بمنهج القرآن والسنة.. وفي ذهني أصوات ترى في تلك المصارحة إضعافاً لمعسكر الحق، وتوهيناً لعزائم الرجال، وتخلياً عن قادة اجتهدوا وربما أخطأوا.. وفرصةً ﻹعلام الزور والبهتان أن يتخذ من مراجعاتنا الذاتية العلنية رصيداً يضيفه إلى أراجيفه، ليقول للناس هاؤمُ قد أخطأوا وهذه هي اعترافاتهم، ولتلك اﻷصوات حسنة القصد نقول أننا لا نحيد عن منهج القرآن الذي قال لنبي اﻹسلام (عَبَسَ وَتَوَلَّىَ)1عبس، والمعركة مع قريش على أشدها.. والمسلمون بين ظهراني المشركين مستضعفون..ولا عن درب القرآن عندما وجّه خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم(وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مااللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النَّاسَ واللّهُ أحَقُّ أن تَخْشَاهُ)37الأحزاب، والمرجفون في المدينة يتلقون المسلمين بألسنة حداد.. واليهود والمشركون على اﻷطراف يتربصون.. ولا نتجاهل سنة النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخذ راية اﻷنصار من سعد بن عبادة ومنحها ابنه قيس.. عندما شكوا إليه هتاف سعد: اليوم يوم الملحمة.. اليوم تستباح الكعبة، فقال النبي اﻷمين"اليوم يوم المرحمة.. اليوم تعظم فيه الكعبة"[1] وأجرى تغييرا ميدانيا ضخما بعزل حامل اللواء أثناء الفتح.. إن محاصرة الخطأ واستئصال خلاياه بسرعة ودقة وحسم هو الضمان اﻷمثل لعدم انتشاره في الجسد المؤمن كله..دعونا في ضوء ذلك نتصارح.. فالمصارحة هي الحل.. دعونا نطرح أسئلة مهمة على طريق تصحيح المفاهيم، أولها سؤال البيعة.. وسؤال التمييز بين دعوة اﻹصلاح ودعوة اﻹسلام، ومن ثم سؤال حتمية التنظيم وأولويته، هل ثمة تناقض بين الخطاب العام "اﻷدبيات" وبين الخطاب الداخلي الذي تمارسه بعض القيادات الوسطى لصنع منطقة ضبابية الرؤية؟، وما منزلة الشورى والطاعة والثقة؟ وهل انتهت تجربة التنظيمات الشاملة تاريخياً لحساب الكيانات المتخصصة؟.. أسئلة تفكيك جريئة.. لكنه تفكيك من أجل إعادة الانفتاح والتركيب والاصطفاف.. ويثور السؤال: وهل مراجعة أسئلة التفكيك المفخخة هذه هي خير ما نبدأ به أسئلة المراجعة الذاتية؟ وهل لهذه اﻷسئلة أثر مباشر على محاولة الخروج من المأزق الراهن، ومواجهة الظرف الحالي وهو ظرف قاهر؟أليس من اﻷولى تقديم المراجعة الميدانية على اﻷرض قبل هذه المراجعة الفكرية الفلسفية التي ربما لا تغير من الواقع الميداني شيئا؟ وأجيب أن الظرف الراهن بقسوته يتحدى الوجود ويهدد بالفناء أو هكذا يحاول، وعليه فإن أسئلة تفكيك اﻷساس وإعادة البناء على أسس أكثر متانة وثباتا لها اﻷولوية في تلك المرحلة.. إن تصحيح التصور يؤدي بالضرورة إلى تقويم اﻷداء وضبط السلوك، وتصحيح المفاهيم يظل الخطوة اﻷولى نحو الهدف النهائي الكبير.. وأسئلة تصحيح اﻷفكار والمفاهيم والتصورات هي أسئلة الظرف الراهن من أجل أن يدرك كل فرد موطن قدمه بوضوح.. ويكمل من يواجهه خطر الاستئصال مواجهته على بينة وهو يقف على أرض صلبة لا تتزلزل ولا تميد به.. أولا سؤال البيعة: قضية البيعة من أهم القضايا التي تواجه أبناء التنظيمات اﻹسلامية، وأشدها التباسا، يستمد مصطلح البيعة من قوله تعالى(إنَّ الذينَ يُبايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فسيُؤتيهِ أجْراً عَظِيماً)10الفتح، ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم "من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية"، وكما في قوله في مسند الإمام أحمد: "من مات وقد نزع يده من بيعة كانت ميتته ميتة ضلالة"، ويحدث الالتباس في قضية البيعة للخلط بين بيعة العمل وبين البيعة العامة التي تُعطَى للخليفة أو اﻹمام العام للمسلمين ككل، ويحدث استخدام للنصوص الشرعية الواردة في قضية البيعة في غير موضعها، وللخروج من هذا اللبس والغموض ننقل رأي العلماء في قضية البيعة "البيعة عقد يترتب عليه التزامات على الطرفين (أولي الأمر والرعية) بالكتاب والسنة، فيحرم نقضها – ديانة - إلا بحقها، ولها أهمية مركزية في النظام السياسي؛ لذا جاء الحديث النبوي بأنه من مات بغيرها مات ميتة "جاهلية"، ولا يجوز إعطاؤها لأكثر من واحد، وإذا نازعه فيها أحد بعد بيعته، يجب الذود عنه، وقتال المنازع كائنا من كان؛ حفاظاً على حق الأمة التي اختارته، والنظام العام. (وقد ورد في الحديث أنه إذا بويع الخليفة فاقتلوا الآخر منهما). والبيعة التي تُعطى لأية هيئة إصلاحية، أو مسئوليها أو أي متصدر للعمل الإسلامي هي بيعة على عمل، والمقصد منها الالتزام بالعمل الذي تم الاتفاق عليه بين الشيخ أو تلامذته أو أي متصدر للعمل الإسلامي - بغض النظر عن الأوصاف – وأتباعه.وبيعة العمل هذه لا يُشترط فيها وجود شخص بعينه تُعطى له البيعة، بل يجوز أن يعطيها طالب العلم أو المريد لأي شيخ يثق في علمه وتقواه، وهي لا تأخذ حكم التعاقد الملزم بين الشخصين أطراف العلاقة التعاقدية، بل الملزم هو العمل نفسه لوجوبه في الشرع ابتداءً وأصلاً، وقد يقوم به الفرد مع نفسه دون التزام بشيخ معين أو طريقة أو جماعة معينة، وقد يختار أن يلتزم به مع شيخ أو طريقة أو جماعة، أو يفعل لمدة، ثم يحل هذا الالتزام من جهته، أو يعفيه منه الشيخ، أو تحله منه الطريقة أو الجماعة التي أخذت هذا العهد أو هذه "البيعة".والأصل في بيعة الإمامة أن تكون هناك بيعة واجبة لاختيار ولي الأمر، وتكون زمنيًا قبل تولِّي السلطة، فلا تؤخذ بالقهر بعد استيلائه على الحكم، أو بالقوة لضمان استمرار الحاكم مدة أطول، وإكساب نظامه شرعية دستورية.أما البيعة على عمل صالح يتفق مع مقررات الشرع الشريف؛ كالأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى؛ فهذه البيعة يستطيع كل فرد أن يعطيها لأي فرد أو هيئة أو طريقة أو جماعة، ولا يترتب عليها التزام بين الطرفين المتعاهدين، ولا يترتب على حل هذه البيعة أو تلك الرابطة أو هذا العهد أي آثار ملزمة تجاه أي طرف من أطراف العلاقة التعاقدية.... وأما بيعة العهد، فالتزام فردي أقرب للتواصي والتعاون، ولا يترتب على خروج الفرد عليها محاسبة له، ولا يحق إكراهه على الاستمرار مع الطريقة أو الجماعة، أو اعتبار تحلله من عهده وانتمائه "خروجًا" على "جماعة" المسلمين.. ونذكر هنا أن الأحاديث الواردة في لزوم الجماعة، والتحذير من مفارقتها ووجوب بيعتها، لا يقصد بها هذه الهيئات؛ حتى لو أسمت نفسها بالجماعة أو حتى بجماعة المسلمين؛ سعيًا منها للدخول في اللفظ أو المساحة الدلالية، فهذا محض اشتراك لفظي، وإنما يقصد الحديث النبوي الأمة جمعاء بمفهومها العام والشامل، وبالتالي فهذه الأحاديث لا تصلح دليلاً مسوغاً لشرعية هذه الدوائر التنظيمية، وإلا سحبها كل فريق على نفسه؛ متهمًا غيره بالخروج عن الطاعة والانسلال من الجماعة وخلع ربقة الإسلام، مع ما يؤدي إليه ذلك من الهرج والفتن والتلاطم والتلبيس على الأغلبية.. والبيعة التي تُعطى لهذه الدوائر لا تخول لأمرائها الحق في السمع والطاعة المطلقة التي كانت تُعطى لإمام المسلمين المتمكن، إبان عصور الخلافة، وإنما هي بمثابة العهد أو "النذر"؛ لأنها التزام بطاعة، وكل قول تضمن التزامًا بفعل طاعة فهو يدخل في النذر بالمعنى الواسع. والنذر يمين، كما ذكر شيخ الإسلام "ابن تيمية" (رحمه الله)[2]، فتكون دائرة إلزامها فيما انعقدت هذه البيعة من أجله من أعمال الجهاد والدعوة.[3] كذلك جاء في فتاوى المذهب الحنفي ما نصه: "رجل أعطى العهد لشيخ، ثم أعطاه لآخر، أيُّ العهدين يلزمه؟ قالوا: لا هذا ولا ذاك![4] .. ويقترب القول بجواز التحلل منها عند الضرورة بكفارة يمين، مع مراعاة أن الأصل هو الوفاء؛ وذلك حتى لا يعني الكلام هنا الاستهانة بالالتزام، فنكث العهود والغدر شُعبة من شعب النفاق التي ذكرها الحديث المتفق على صحته. وقد عدّ "ابن حجر الهيثمي" الغدرَ من الكبائر[5]، بل يعني كلامنا أهمية تحرير الأمر، وتحوّط وحرص من يعطي العهد على أن يعقل الأمور والظروف ويتروى؛ لأن العهد والوعد والنذر التزام، حتى لو تفاوتت درجته عن البيعة السياسية."

شكرآآآآآ

مشكورررررررررررررررر

موضوع رائع بوركت

موضوع رائع بوركت

موضوع رائع بوركت

موضوع رائع بوركت

موضوع رائع بوركت

موضوع رائع بوركت

موضوع رائع بوركت

موضوع رائع بوركت